بسم الله الرحمن الرحيم
" حالات لا يُرفع فيها السيف عمن يقول لا إله إلا الله "
هذه بعض الحالات التي لا يرفع فيها السيف عن صاحبها وإن أتى بشهادة التوحيد
لأنه قد يتوهم البعض أن شهادة أن لا إله إلا الله ترفع السيف عن قائلها أياً كان قائلها، وكانت صفته وحالته ، معتمدين في ذلك على قصة أسامة بن زيد رضى الله عنه لما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله، وإنكار النبي عليه الصلاة وا لسلام الشديد عليه , وغيرها من النصوص و أقوال أهل العلم التى تفيد أن الكافر المحارب لو قال لا إله إلا الله في أجواء القتال أو غيرها .. رُفع عنه السيف وعصم دمه وماله .
الحالة الأولى : المرتد ردة مغلظة
وهو الذي يتبع ردته حرباً لله ولرسوله وللمؤمنين، فيزداد بذلك كفراً على كفر .. فمثل هذا لا تقبل توبته بعد القدرة عليه، ولا يُستتاب، ولو تاب وجهر بلا إله إلا الله لا يُقبل منه ولا يرتفع عنه السيف وحد القتل .
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) .
قال ابن تيمية في الصارم: أخبر سبحانه أن من ازداد كفراً بعد إيمانه لن تقبل توبته، وفرق بين الكفر المزيد كفراً والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول، فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف القرآن ا-هـ
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رهطاً من عُكل ثمانية قدموا على النبي عليه الصلاة وا لسلام ، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أبغنا رِسْلاً، قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود، فانطلقوا فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم , فأتى الصريخ النبى عليه الصلاة وا لسلام فبعث الطلب، فما ترجل النهار حتى أُتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يُسقون حتى ماتوا ".
فعل بهم ذلك لأنهم أتبعوا ردتهم القتل، والنهب للأموال العامة للمسلمين .. فازدادوا بذلك كفراً .
وعند البخاري كذلك عن أنس بن مالك أن رسول الله عليه الصلاة وا لسلام دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:" اقتلوه ".
وقوله " متعلق بأستار الكعبة " أي تائباً يطلب الأمان .. ومع ذلك لم يُستتب ولم ينفعه ذلك في شيء، ولم ينفعه الأمان العام الذي أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام لأهل مكة، وبخاصة منهم من دخل المسجد الحرام .. بسبب أنه ارتد عن الإسلام، وضم إلى ردته القتل والشتم للرسول عليه الصلاة و السلام، والتحاقه بالمشركين ..! , وكذلك فُعل بمقيس بن ضبابة، وابن سرح وغيرهم لما ضموا إلى ردتهم الحرب على لله وعلى رسوله والمؤمنين .
قال ابن تيمية في الفتاوى : يُفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة ا-هـ .
أما إن تاب قبل القدرة عليه، وجاء تائباً مستسلماً من تلقاء نفسه فالراجح أن توبته تقبل لقوله تعالى
إنما جزاء الذين يُحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ), فاستثنى الله تعالى مما تقدم التائب قبل القدرة عليه ..
قال ابن تيمية في الصارم: إن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القـدرة
وبعدها، لأن الحدود إذا رُفعت إلى السلطان وجبت ولم يكن العفو عنها ولا الشفاعة، بخلاف ماقبل الرفع، ولأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار، والتوبة بعد القدرة توبة إكراه واضطرار، بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق، وتوبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس، وتوبة من حضر الموت، فقال: إني تبت الآن فلم يُعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب، ولأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقط الحد لتعطلت الحدود وانبثق سدّ الفساد ا-هـ .
فإن قيل: التوبة قبل القدرة تُسقط حق الله وحق العباد معاً، أم أنه يوجد تفصيل وتفريق ؟
الراجح من مجموع الأقوال الموافق لأدلة الشريعة أن المحارب إذا كان محارباً على وجه الردة، فتوبته قبل القدرة عليه تسقط حقوق الله وحقوق الآدميين معاً؛ وهذا ما جرت عليه سنة أبي بكر رضى الله عنه ومن معه من الصحابة مع أهل الردة الذين أعلنوا توبتهم وإيابهم إلى الحق والسمع والطاعة، وعندما أراد أبو بكر أن يأخذ منهم الفدية عن قتلى المسلمين، قال له عمر رضى الله عنه : إنهم ـ أي قتلى المسلمين ـ قاتلوا في سبيل الله وأجرهم على الله .. فامتنع أن يأخذ منهم الفدية، وعلى هذا جرى العمل بين الصحابة .
أما إذا كان المحارب مسلماً ـ لكنه يقوم بعمل الحرابة والسطو وقطع الطريق ـ ثم تاب قبل القدرة عليه، فتوبته تسقط عنه حق الله وهو حد الحرابة دون حقوق الآدميين، فإن عليه القصاص وأداء الحقوق إلى أصحابها؛ فإن قتل يُقتل، وإن سلب المال أعاده إلى أصحابه إلا أن يعفوا عنه .
الحالة الثانية : الزنديق
الزنديق : هو المنافق الذي يُظهر كفره، فإن قامت عليه البينة القاطعة واستتيب أنكر وجحد .
والراجح في الزنديق أنه يُقتل من غير استتابة ـ مهما تظاهر بالإسلام وقال لا إله إلا الله ـ لأن الاستتابة تكون من شيء، والزنديق لا يعترف بشيء فمما يُستتاب ..؟!
قال تعالى
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ).
قال ابن تيمية في الصارم: قال أهل التفسير (أو بأيدينا) بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم، ولو كان المنافق يجب قبول ما يُظهر من التوبة بعدما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن يُتربص بهم أن يُصيبهم الله تعالى بعذابٍ من عنده بأيدينا؛ لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة! فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده .
وقال ابن القيم في زاد المعاد: وها هنا قاعدة يجب التنبه عليها لعموم الحاجة إليها وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهر لم يُعارضه ما هو أقوى منه فيجب العمل به لأنه مقتضى لحقن الدم والمعارض منتفٍ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره ـ بعد القدرة عليه ـ للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية ..
وقال: ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه ، قوله تعالى
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا ) قال السلف : أو بأيدينا؛ أي بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنون من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل، فلو قبلت توبتهم بعدما ظهرت زندقتهم لم يكن المؤمنين أن يتربصوا بالزنادقة أن يُصيبهم الله بأيديهم، لأنهم كلما أرادوا أن يُعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يُصابوا بأيديهم قط ا-هـ .
الحالة الثالثة : شاتم الرسول عليه الصلاة و السلام
من كانت ردته من جهة شتم النبي عليه الصلاة و السلام فإنه يُقتل كفراً وحداً ومن دون أن يُستتاب؛ فإن تاب من الكفر ـ وصدق في توبته ـ بقي عليه حد الشتم، وحد الأنبياء القتل ولا بد؛ إذ لا يحق لأحدٍ أن يتشفع في حق هو ليس له، وإنما هو خاص بالنبي عليه الصلاة و السلام .
قال ابن تيمية في الصارم: المرتد يستتاب من الردة، ورسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه، فعُلم أن كفره أغلظ، فيكون تعيين قتله أولى ..
إن قتل ساب النبي عليه الصلاة و السلام وإن كان قتل كافراً، فهو حد من الحدود ليس قتلاً على مجرد الكفر والحراب، لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي عليه الصلاة و السلام وأصحابه أمروا فيه بالقتل عيناً .. وقد ثبت أن حده القتل بالسنة والإجماع ا-هـ.
الحالة الرابعة : فيمن يجب عليه حد القتل
فمن وجب عليه القتل لوقوعه في جريمة القتل بغير حق ونحو ذلك .. فإنه يُقتل حداً من حدود الله إلا أن يعفوا أولياء المقتول، وشاهدنا هنا: أن الجاني لو قال لا إله إلا الله قبل أن يُقتل فإنها لا ترفع عنه حكم القتل ولا السيف .
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كـتـبـه الشـيــخ
أبو بصير